فصل: تفسير الآية رقم (101):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (98):

{قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)}
{قَالَ} أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم {هذا} إشارة إلى السد، وقيل: إلى تمكنه من بنائه والفضل للمتقدم ليتحد مرجع الضمير المتأخر أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل باشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال {رَحْمَةً} أي أثر رحمة عظيمة وعبر عنه بها للمبالغة {مّن رَّبّى} على كافة العباد لاسيما على مجاوريه وكون السد رحمة على العباد ظاهر وإذا جعلت الإشارة إلى التمكن فكونه رحمة عليهم باعتبار أنه سبب لذلك، ورا يرجح المتقدم أيضًا باحتياج المتأخر إلى هذا التأويل وإن كان الأمر فيه سهلًا، وفي الإخبار عنه بما ذكر إيذان على ما قيل بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة باشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بالمباشرة، وفي التعرض لوصف الربوبية تربية معنى الرحمة، وقرأ ابن أبي عبلة {هذه رَحْمَةً} بتأنيث اسم الإشارة وخرج على أنه رعاية للخبر أو جعل المشار إليه القدرة والقوة على ذلك {فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى} أي وقت وعده تعالى فالكلام على حذف مضاف والإسناد إلى الوعد مجاز وهو لوقته حقيقة، ويجوز أن يكون الوعد عنى الموعود وهو وقته أو وقوعه فلا حذف ولا مجاز في الإسناد بل هناك مجاز في الطرف، والمراد من وقت ذلك يوم القيامة، وقيل: وقت خروج يأجوج ومأجوج، وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم والمراد جيئه ما ينتظم مجيئه ومجيء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قال الزمخشري وغيره فإن بعض الأمور التي ستحكي تقع بعد مجيئه حتمًا {جَعَلَهُ} أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته {دَكَّاء} بألف التأنيث الممدودة والموصوف مؤنث مقدر أي أرضًا مستوية، وقال بعضهم: الكلام على تقدير مضاف أي مثل دكاء وهي ناقة لا سنام لها ولابد من التقدير لأن السد مذكر لا يوصف ؤنث، وقرأ غير الكوفيين دكًا على أنه مصدر دككته وهو عنى المفعول أي مدكوكًا مسوى بالأرض أو على ظاهره والوصف به للمبالغة، والنصب على أنه مفعول ثان لجعل وهي عنى صير، وزعم ابن عطية أنها عنى خلق وليس بشيء.
وهذا الجعل وقت مجيء الوعد جيء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته تعالى شأنه بعد بيان سعة رحمته عز وجل وكان علمه بهذا الجعل على ما قيل من توابع علمه جيء الساعة إذ من مباديها دك الجبال الشامخة الراسخة ضرورة أنه لا يتم بدونها واستفادته العلم جيئها ممن كان في عصره من الأنبياء عليهم السلام، ويجوز أن يكون العلم بجميع ذلك بالسماع من النبي وكذا العلم جيء وقت خروجهم على تقدير أن يكون ذلك مرادًا من الوعد يجوز أن يكون عن اجتهاد ويجوز أن يكون عن سماع.
وفي كتاب حزقيال عليه السلام الإخبار جيئهم في آخر الزمان من آخر الجربياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى وإفسادهم في الأرض وقصدهم بيت المقدس وهلاكهم عن آخرهم في بريته بأنواع من العذاب وهو عليه السلام قبل اسكندر غالب دارا فإذا كان هو ذا القرنين فيمكن أن يكون وقف على ذلك فأفاده علمًا بما ذكر والله تعالى أعلم، ثم أن في الكلام حذفًا أي وهو يستمر إلى آخر الزمان فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء {وَكَانَ وَعْدُ رَبّى} أي وعده سبحانه المعهود أو كل ما وعد عز وجل به فيدخل فيه ذلك دخولًا أوليًا {حَقًّا} ثابتًا لا محالة واقعًا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية وتأكيد لمضمونها وهو آخر ما حكى عن قصته، وقوله عز وجل:

.تفسير الآية رقم (99):

{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)}
{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} كلام مسوق من جنابه سبحانه وتعالى وضمير الجمع المجرور عند بعض المحققين للخلائق، والترك عنى الجعل وهو من الأضداد، والعطف على قوله تعالى: {جَعَلَهُ دَكّاءَ} [الكهف: 98] وفيه تحقيق لمضمونه، ولا يضر في ذلك كونه محكيًا عن ذي القرنين أي جعلنا بعض الخلائق {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ جاء الوعد جيء بعض مباديه {يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} آخر منهم، والموج مجاز عن الاضطراب أي يضطربون اضطراب البحر يختلط إنسهم وجنهم من شدة الهول وروي هذا عن ابن عباس، ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى، وقيل: الضمير للناس والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ جاء الوعد بخروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر لفزعهم منهم وفرارهم وفيه بعد؛ وقيل: الضمير للناس أيضًا، والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ تم السد يموج في بعضهم للنظر إليه والتعجيب منه ولا يخفى أن هذا يتعجب منه.
وقال أبو حيان: الأظهر كون الضمير ليأجوج ومأجوج أي وتركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد وذلك بعد نزول عيسى عليه السلام، ففي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان بعد ذكر الدجال وهلاكه بباب لد على يده عليه السلام ثم يأتي عيسى عليه السلام قومًا قد عصمهم الله تعالى من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينماهم كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم ويضمون إليهم مواشيهم فيشربون مياه الأرض حتى أن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسًا حتى أن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان هاهنا ماء مرة ويحصر عيسى نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور ورأس الحمار لأحدهم خيرًا من مائة دينار؛ وفي رواية مسلم وغيره فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم نقتل من في السماء فيرمون نشابهم إلى السماء فيردها الله تعالى عليهم مخضوبة دمًا للبلاء والفتنة فيرغب نبي الله وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى، وفي رواية داود كالنغف في أعناقهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو فيتجرد رجل منهم محتسبًا نفسه قد وطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مداينهم وحصونهم فيسرحون مواشيهم فما يكون لها مرعى إلا لحومهم فتشكر أحسن ما شكرت عن شيء ويهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فيها موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيستغيثون بالله تعالى فيبعث الله سبحانه ريحًا يمانية غبراء فتصير على الناس غمًا ودخانًا ويقع عليهم الزكمة ويكشف ما بهم بعد ثلاثة أيام وقد قذفت الأرض جيفهم في البحر، وفي رواية فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل طيرًا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى، وفي رواية فترميهم في البحر وفي أخرى في النار ولا منافاة كما يظهر بأدنى تأمل ثم يرسل الله عز وجل مطرًا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذٍ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ويوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين، ولعل الله تعالى يحفظ ذلك في الأودية ومواضع السيول زيادة في سرور المسلمين أو يحفظها حيث هلكوا ولا يلقيها معهم حيث شاء ولا يعجز الله تعالى شيء، والحديث يدل على كثرتهم جدًا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعًا أن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم من صلبه ألفًا من الذرية.
وحمله بعضهم على طول العمر.
وفي البحر أنه قد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء. وأعجب ما روي في ذلك قول مكحول الأرض مسيرة مائة عام ثمانون منها يأجوج ومأجوج وهي أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة لا تشبه أمة الأخرى وهو قول باطل، ومثله ما روي عن أبي الشيخ عن أبي أمامة الدنيا سبعة أقاليم فليأجوج ومأجوح ستة وللباقي إقليم واحد وهو كلام من لا يعرف الأرض ولا الأقاليم: نعم أخرج عبد الرزاق. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والحاكم وصححه من طريق البكالي عن ابن عمر أن الله تعالى جزأ الإنس عشرة أجزاء فتسعة منهم يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس إلا أني لم أقف على تصحيحه لغير الحاكم وحكم تصحيحه مشهور ويعلم مما تقدم ومما سيأتي إن شاء الله تعالى بطلان ما يزعمه بعض الناس من أنهم التاتار الذين أكثروا الفساد في البلاد وقتلوا الأخبار والأشرار. ولعمري أن ذلك الزعم من الضلالة كان وإن كان بين يأجوج ومأجوج وأولئك الكفرة مشابهة تامة لا تخفى على الواقفين على أخبار ما يكون وما كان إبطال ما يزعمه بعض الناس من أنهم التاتار {وَنُفِخَ فِي الصور} الظاهر أن المراد النفخة الثانية لأنه المناسب لما بعد.
ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار، وقيل: لئلا يقع الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة.
والصور قرن جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول. وقد صح عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ». وزعم أبو عبيدة أنه جمع صورة وأيد بقراءة الحسن {الصور} بفتح الواو فيكون لسورة وسور ورد ذلك أظهر من أن يخفى، ولذلك قال أبو الهيثم على ما نقل عنه الإمام القرطبي: من أنكر أن يكون الصور قرنًا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات. وذكر أن الأمم مجمعة على أن النافخ فيه إسرافيل عليه السلام {فجمعناهم} أي الحلائق بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء {جَمْعًا} أي جمعًا عجيبًا لا يكتنه كنهه.

.تفسير الآية رقم (100):

{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)}
{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ} اظهرناها وأبرزناها {يَوْمَئِذٍ} أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة {للكافرين} منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا {عَرْضًا} أي عرضًا فظيعًا هائلًا لا يقادر قدره. وتخصيص العرض بهم مع أنها رأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة.

.تفسير الآية رقم (101):

{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)}
{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ} وهم في الدنيا {فِى غِطَاء} كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذلك من جميع الجوانب {عَن ذِكْرِى} عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكرى بالتوحيد والتمجيد. فالذكر مجاز عن الآيات المذكورة من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب. وفيه أن من لم ينظر نظرًا يؤدي به إلى ذكر التعظيم كأنه لا نظر له البتة وهذا فائدة التجوز.
وقيل: الكلام على حذف مضاف أي عن آيات ذكري وليس بذاك، ويجوز أن يكون المراد بالأعين البصائر القلبية. والمعنى كانت بصائرهم في غطاء عن أن يذكروني على وجه يليق بشأني أو عن ذكري الذي أنزلته على الأنبياء عليهم السلام، ويجوز أن يخص بالقرآن الكريم {وَكَانُواْ} مع ذلك {لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} نفى لسماعهم على أتم وجه ولذا عدل عن وكانوا صمًا الا خصر إليه. والمراد أنهم مع ذلك كفاقدي حاسة السمع بالكلية وهو مبالغة في تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالإبصار فلا حاجة إلى تقدير لذكري المراد منه القرآن أو مطلق الشرائع الإلهية فإنه بعد تخصيص الذكر المذكور في النظم الكريم أولًا بالآيات المشاهدة لا يصير قرينة على هذا الحذف. قال ابن هشام في المغني: إن الدليل اللفظي لابد من مطابقته للمحذوف معنى فلا يصح زيد ضارب وعمرو أي ضارب على أن الأول عناه المعروف والثاني عنى مسافر. وتقدير ذلك وإرادة معنى الآيات منه مجازًا بعد المجاز أظهر، وقال بعض المحققين: إن تقدير ذلك إنما هو بقرينة قوله تعالى سمعًا وأن الكافرين هذا حالهم لا بقرينة ذكر الذكر قبل ليجيء كلام ابن هشام، ولا يخفى أنه لا كلام في تقدير الذكر عنى القرآن أو الشرائع الإلهية إذا أريد من الذكر المذكور ذلك. والموصول نعت الكافرين أو بدل منه أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم.